نبيل محمد
ليس وَقْع الموسيقى الصوفية، وطقس إنتاجها، وحياة العازف فيها، ذا شكل واحد في كل الظروف، هذا ما يثبته ثلاثة عازفين محترفين لهذا النوع من الموسيقي ذي الهوية المستقلة، شردتهم الحرب بعيدًا عن بلادهم وزواياهم التي كانوا يلجؤون إليها، ليرددوا صدى إيمانهم العميق بالحب والفن، في جدلية جعلت معنى الموسيقى الصوفية مختلفًا بما قدمه فيلم “وجد.. أغاني الفراق” الذي قُدّم عام 2018، وصور خلال مرحلتين، الأولى قبل اندلاع الثورة السورية بأشهر قليلة، والثانية بعدها.
في الفيلم الذي يجوب قاعات عرض متعددة حاليًا في أوروبا، بعد حضوره في مهرجانات عالمية أواخر عام 2018، يصدف أن تابعت كاميرا مخرجه عمار شبيب تجربة الموسيقى الصوفية في حلب قبل اندلاع الثورة، ويبدو أن الفيلم حينها لم يكتمل، فتابع مخرجه خطى موسيقييه الذين كان يرصد حياتهم وزواياهم الصوفية، بعد أن تركوا بلادهم، فكان إبراهيم مسلماني في غازي عينتاب، وهو أحد أهم العازفين والمغنين الصوفيين السوريين حاليًا، وعبد الواحد عازف العود الفلسطيني السوري ابن مخيم اليرموك، الذي لجأ إلى اسطنبول ليجد مكانًا له عند موسيقي تركي راسله عن طريق الإيميل، ووجد لديه ما يحفظ له هويته كموسيقي، يقدر أن يعايش آلته يوميًا وينتج. لعبد الواحد ذاكرة لا تختلف كثيرًا عن ذاكرة زميليه في بلاده، لكن الحديث عنها يبدو أصعب، فكلما اقترب منها طلب الابتعاد عنها، حاجز ما كان يقف بينه وبين تذكر أصدقائه هناك، الأصدقاء الذين استشهد كثيرون منهم في ساحات التظاهر ضد النظام السوري. ينتمي عبد الواحد للثورة السورية بكل ما فيها، ويكرر ذلك بصلابة وعبوس، ضحكات زميليه في الفيلم لا تجد طريقها إلى وجهه، تلك الضحكات التي تعني البكاء وفق منظور مسلماني، الذي كلما اقترب من الغصة ضحك.
العازف الثالث هو محمد وهو الأبعد جغرافيًا عن مدينته حلب، حيث يقيم لاجئًا في هولندا، يرصد الفيلم حياته اليومية في الكامب، منتظرًا لم شمل أسرته وأطفاله، الوجه كثير البكاء على الذاكرة المتجذرة في حديثه وموسيقاه، هو ليس بعيدًا فقط عن حلب، بل عن أصدقائه في تركيا الذين يتيح لهم الوجود في مكان واحد العزف معًا واجتراع الذاكرة الجمعية.
الشيخ سيف الذي يظهر في منتصف الفيلم، جامعًا هواة الصوفية حوله، يظهر كخازن لذاكرتهم جميعًا، وكمنظّر في الصوفية، يقر بها كأسلوب حياة، وثيمة فنية روحية عالية، يسقي مما يقول طلابَه كل يوم، وقد جلس بضيافة مسلماني الذي يجمع صحبه ويجلسون في بيت بسيط مفترشين الأرض حاملين آلاتهم، ومخترعين زاويتهم التي فقدوها في حلب. يجدد الشيخ سيف رؤيته الصوفية فيما يحكيه أمام طلابه، فيقول في أعمق ما وصل إليه الفيلم في الصوفية “خلق هذا الكون جميلًا رائع الجمال بديع الصنع متسقًا منسجمًا يحن الثمر فيه إلى الغصن، ويحن الغصن إلى الجذع، ويحن الجذع إلى الجذور، وتحن الجذور إلى الأرض، وتحن الأرض إلى المطر، تتضافر هذه الجزئيات مع بعضها فتتكامل معلنة الولاء إلى سيدها الإنسان ابن التراب والماء معبرة عن عشقها الجميل، إن الله جميل يحب الجمال”.
“استمع إلى هذا الناي يأخذ في الشكاية. ومن الفراق يغني الحكاية. منذ أن كان من الغاب اقتلاعي. ضج الرجال والنساء في صوت التياعي”، جُمَل جلال الدين الرومي، التي يفتَتح فيها الفيلم، تتجلى في بوح للعازفين عن ذكرياتهم، مع آلاتهم الموسيقية، فيظهر أن تجليات الصوفية لديهم أخذت شكلها الأوضح، بعد اقتلاعهم من الغاب، الغاب الذي هو وطنهم بكل ما فيه من تفاصيل قد تكون لعين الصوفي طريقة أخرى يراها بها، طريقة تجعله يجمع ما يقدر عليه من الحب، ليصل إلى مطلقه في وصل الحبيب. الوطن والله وما شاء.